إشراقة

 

أهلُ الحق يجب أن يكونوا أَغْيَرَ على حقهم من أهل الباطل على باطلهم

 

 

 

 

     في إحدى ليالي أبريل 2004م، وبالذات في الليلة المتخللة بين 13-14/أبريل 2004م (الثلاثاء – الأربعاء: 22-23/صفر 1425هـ) كنتُ أستمع إلى البرنامج الأرديّ لإذاعة «البى بي سي/ لندن» في الساعة :308:309،فأكسبت إيماني كلمةٌ لمسلم أفغانيّ غَيُور على دينه وإيمانه نَقَلَتْها عنه الإذاعةُ حولَ شرح خلفيّةٍ للتطورات الحاصلة آنذاك على أرض أفغانستان ، قوةً لم يُكْسِبْه مثلَها أفعلُ خطابٍ وأسحُركتابٍ، وأيَّةُ رسالةٍ معجونة بالفصاحة والبلاغة ، وأيَّةُ مقالة قوامُها الحماسُ وصدقُ الإخلاص . هَزَّتْني الكلمة حقًّا هَزَّةَ فرح عجيبة، بقيتُ بعدها لمدة غير قليلة أحتسي النشوةَ وأعِلُّ الطربَ . وهي :

     إذا كان رئيس دولة كذا – وهو يزعم أنه مسلم يستوعب الوعيَ العصريَّ  ويَتَمَتَّعُ بالحسّ الحاضر للمستوى المطلوب ؛ فهو وحده المسلم الصادق بين رؤساء الدول الإسلاميّة ! – على إيعاز ؛ بل على أمر من أمريكا ، ولإرضاء أكبر إرهابي وحاكم مستبدّ على وجه الأرض – ولا يزال الكلام للأفغاني – وهو بوش الابن؛ وللفوز بدولارات ، والتمتّع بالعزّ الخيالي الفاني في هذه الدنيا الزائلة ، يستسيغ أن يعتقل 600 – 700 من شعبه المسلم ومن وَصَلَتْ إليهم يداه من الأفغان الغياري على دينهم ، ويسلمهم إلى أمريكا؛ لتضعهم في زنزانات سجن «غوانتانامو» الكوبيّة ، وتتناولهم من العقاب مالم تعرفه لحدّ اليوم جبابرةُ الكون .. إذا كان الرئيس فلان يصنع كذا للذّة المحدودة الأيام ، فهل بلغتُ من فقدان الغيرة الدينية أن أَتَرَدَّدَ في التضحية في سبيله تعالى، بنفسي التي هي هبة منه تعالى، ولاحول لي فيها ولا طول . فإذا قَبـِلَها ورضيها تضحيةً خالصةً مني له تعالى، فتلك منّة منه كبيرة وفضل منه جليل . حقّاً إنّ الموت حقيقةٌ ستذوقها كل نفس رضيت أو أبت ، فلماذا لانموت؛ لكي نحيى أبدًا، ولكي لانموت بعد الموت ؛ فنموت لديننا ، ونفدي عقيدتنا ، ونتلاشى في سبيل إيماننا . إن الموت للحياة أفضل باليقين من الحياة للموت .

     المبدأ الذي يُسْتَنْبَطُ من مقالة الأفغاني – التي تؤكّد أن بشاشة الإيمان كانت قد خالطت شغافَ قلبه – الذي لاندري إذا كان حيًّا محتفظاً بكيفيته الإيمانيه المغبوطة تلك، أم سعد بالتضحية بنفسه التي كانت حقًّا مُعَارَةً إيّاه من قبل بارئها تبارك وتعالى ، هو : أنّ أهل الحق يجب أن يكونوا أَغْيَرَ على حقّهم من أهل الباطل على باطلهم . إنه من العار والشنار أن يُرَىٰ – ولو في بعض المواقف أو ولو فيما يبدو للعيان – أهلُ الباطل أصبَر على الأذى وأثبتَ على تحمّل الألم تجاه الحفاظ على باطلهم، أو تجاه تنفيذ فكرتهم الغاشمه، ومُخظَّطهم الجهنّمي الذي يُضْمِر دمارًا شاملاً رهيبًا للإنسانية، ولاسيما لدعاة الحق وأنصاره . لقد قرأتُ في بعض كتابات الكاتب الإسلامي الكبير الشيخ محمد الغزالي رحمه الله منذ سنوات ما استجبتُ له على طول الخطّ و عرضه ، وهو أن من المؤلم جدًّا أن يُوجَد أحيانًا في صفّ الباطل من يغامر بنفسه مغامرة قد لايقوم بمثلها أنصارُ الحق .

     إنّ الإيمان بمصداقيّة الموقف ، وحقيّة المبدء ، هو الذي يدفع المُبْطِلين أن يستميتوا بعضَ الأحيان لبالطهم الذي يرونه أحقَّ من الحقّ وأصدقَ من الصدق ؛ فيُهْلِكون في سبيله نفوسَهم ونفوسَ غيرهم، ويُبَذِّرون الأموال ، ويُدَمِّرون العباد والبلاد، ويكذبون له مَرَّاتٍ لاتُحْصَىٰ ؛ حتى يتأكّد الرأيُ العامُّ المُضَلَّل من حقّيته وكونه أحقَّ بالبقاء والانتشار والتلقّي ، ويتصيّدون كلّ نوع من الدلائل لتأييده وإيجاد سياج منيع حوله غير قابل للاختراق ، ولا يقعدون عن السعي لحمايته مهما كانت الظروف، وحالت الموانع ، وزُرِعَتِ المتاريس ، وقُوبـِلُوْا بالمعارضة والانتقاد والتشنيع .

     يصنعون ذلك رغم أنّهم لايرجون من الله ما يرجوه أهل الحق ، من النصرة والإعانة والتمكين في الأرض ، والإكرام بإدخال الجنة وإغداق النعيم المقيم عليهم فيها . فإذا كانـوا يصابرون على المرابطة على ثغور باطلهم هذه المصابرةَ التي لاتحتاج إلى بيان، لأنها مكشوفة للعيان ، رغم أنَّهم لايناصرهم الحافز الإيماني المعنوي المتمثل في الرجاء من الله ، فغنيٌّ عن القول : إنّ أهل الحق أحقُّ بالاستماتة، في سبيل تثبيت حقهم، وترسيخ صدقهم، وتنفيذ مبدئهم، من أهل الباطل ؛ لأنهم يمللون الدافع الإيماني الأقوى والحافز الرباني الأغلب ، وهم يؤمنون بالنصرة الإلهية في العاجلة قبل الآخرة، وبالفوز بالجنة في الآخرة : «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِيْنَ آمَنُوا فِي الْحَيـٰـوةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ» (غافر/51) .

     لقد تَدَاعَى الأعداءُ اليوم على الإسلام وأهله تَدَاعِيَ الأَكَلَة إلى قصعتها ، يحاربونه وإيّاهم بمسمّيات غريبة وحجج عجيبة ، ويصطلحون على محاربة الإسلام وأهله رغم اختلافهم الشديد وصراعهم المزيد ، كأن الرميّةَ وَحَّدَتْهم والحرصَ على تقاسم لحم الصيد جَمَعَ بينهم . وانطلاقًا من المبدء الظَلاَميّ والقانون الجاهلي أو – بكلمة أخرى – قانون الغاب : «اِتَّهِمِ الكلبَ بالجنون يَجُزْلك قتلُه» عاد الأعداء يتّهمون الإسلام بأنّه دين الإرهاب ، ويتّهمون أبناءه بأنهم إرهابيّون ، ويتحركون في التعامل معهم من هذا المُنْطَلَق ؛ فيحاصرونهم ، ويهجمون عليهم ، ويقتلونهم ، ويخرِّبون ديارهم، ويهلكون حرثهم ونسلهم ، ويبيدون مصادر رزقهم، ويدمّرون موارد معاشهم، ويزيلون معالم تأريخهم: حضارتهم وثقافتهم ومنهج حياتهم، ويُمْلُونَ عليهم نمطَ حياتهم ومنهاجَ حركاتهم وسكناتهم، وأسلوبَ حكمهم حتى تقاليدهم وعاداتهم . فإذا تَجَرَّؤوا على أن يرفضوها ويَثْبُتُوا على ما لديهم من ذي قبل، أو رَضُوا باستبدال ما في دينهم من ذلك بالذي هم عليه الآن ، هَجَمُوا عليهم قائلين: إنهم إرهابيّون، لايقبلون الإصلاحَ والتغييرَ الإيجابيَّ، ولايستجيبون لمحاولة نشر الحكم بالعدل ومنهاج الحكم الذي هو العصا السحرية وحجر الفلاسفة لدينا، وهو الديموقراطية التي ابتكرناها ونفذناها نحن .

     وكلّما كان المسلم متديّنًا ملتزمًا بأحكام دينه وشعاره وشارته، كان إرهابيًّا بشكل أكثر، ومتطرفًا عنيفًا بقوة أكبر؛ فالملتحي، الحامل سيما الصلاة، المرتدي زيَّ العلماء والصالحين، المحافظ على الصلوات، المتهجّد ليلاً، المتقيد بأركان الإسلام كلها، وأوامره ونواهيه جميعها، المتحاكم في جميع شؤونه إلى الله ورسوله، غير الموالي لمن يحادّ الله ورسوله؛ أكثر إرهابًا ممن لا يتأتّى على هذه المواصفات؛ ومن هنا هو أحقُّ بأن يُنْزَلَ عليه من العقاب مالا يُنْزَل على من هو دونه؛ لأنّ «الجزاء» على قدر البلاء، و«الجائزة» حسب السبق في الاختبار .

     ومن هنا يُتَنَاول الإسلاميّون والمتديّنون من المسلمين من التضييق والتعذيب والتنكيل، بما لا«يُكْرَم» به من هم ليسوا من المسلمين متدينين، أي ليسوا «أصوليين» «متشدّدين» وبالتالي ليسوا إرهابيين؛ وإنما هم معتدلون مُتَّزِنون عصريّون وَاعُون لروح الزمان ومقتضى الحاضر . وهيئةُ هذا النوع من المسلمين تنطق بهذه الصفات؛ فهم محلوقو اللحى، وهم في زيّ غير زيّ الصالحين، وهم غيرُ محافظين على الصلاة، وغيرُ ملتزمين بأحكام الدين، وهم قد يؤدّون الزكاة، وقد يصومون، وقد يقومون ببعض ما يأمرهم به الدين أو ينهاهم عنه ، وقد لايصنعون . لايُغِيرُهم دوسٌ للقيم، وخدشٌ للحياء، وإساءةٌ إلى شعار للإسلام، وإهانةٌ للمقدسات، ولايُسْخِطهم خرقٌ لثوابت الدين وعصيانٌ لضرورياته . قد يعبدون اللهَ ولكن لا يتأذَّون إذا عُبـِدَ غيرُ الله . يؤمنون بالإسلام ولكن لايتحرَّجون من فرض غير الإسلام عليهم.. هؤلاء كلُّهم على قدر تحرّرهم مما هو في الإسلام، مرضيّون لدى الأعداء مُنَزَّهون عن الإرهابية، مُبَرَّؤون من جميع الصفات السلبية: الأصوليّة ، والتطرف، والتشدد، والتزمت ، و . . .

     ولكنّ هؤلاء المتنازلين عن بعض الدين أو مُعْظَمه أيضًا لايرحمهم الأعداءُ إلاّ قدرَما يتعاونون معهم في محاربة الإرهابيين أي النوع الأوّل من المسلمين . والدليلُ على ذلك أنهم ما إن يصرّون على العمل بشعار من شعارات الإسلام في ديارهم – الأعداء – التي هم فيها يُشَكِّلُونَ أقليةً ، حتى يَقْلِبون لهم ظهرَ المجنّ . وما قضيةُ الحجاب التي لاتزال ساخنةً في ديارهم هنا وهناك ببعيدة . إذًا الأعداءُ لن يرضى عنّا مهما تنازلنا ؛ لأننا إذا تنازلنا عن درجة، يطالبوننا بالتي دونها ، ثم التي دُونها ، وهلم جرًّا . وقد صدق ربنا الرحمن : «وَلَنْ تَرْضَىٰ عَنْكَ الْيَهُوْدُ وَلاَ النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ» (البقرة/120) . وهكذا الوثنيون والدهريون والملحدون وجميعُ الكفرة لن يرضوا عنّا حتى نتبع ملتهم .

     غير أن المسلمين المتحرِّرين غيرَ الملتزمين أو بكلمة أخرى : المسلمين بالاسم وليس بالحقيقة، أحبُّ إلى غير المسلمين، لكونهم أقرب إليهم بتركهم بعضَ الدين : نصفَه أو ثلثَه أو ربعَه أو . . . وكلما كان الإسلام متروكاً كان ذلك موقفًا سارًّا لهم ، فإن تُرِكَ كُلُّه فبها ونعمت ، وإلاّ فما حَصَلَ فهو خير لهم ؛ لأنّه – كما قيل – «ما لا يُدْرَكُ كلُّه لايُتْرَكُ قُلُّه» .

     إن القبض على الدين أصبح اليوم كالقبض على الجمر، كما تنبّأ بذلك سيدنا ونبينا محمد ؛ لكن تلاميذَ الشيطان الأوفياء الأبرار ، قد جَعَلَنا يسهل علينا اتّباعُ الدين . إنهم بعدائهم الشديد للإسلام، وممارساتهم الوحشية التي يصدرون فيها عن هذا العداء والبغضاء؛ أمدّونا بقوة معنوية ربّما لم تكن لتظهر فينا لولا مظاهر عدائهم هذه التي نُمْنَىٰ بها من قبلهم في كل مكان حتى في عقر دارنا: قوةِ الصمود والمجابهة والاستماتة والمصابرة إلى حد عتبة الموت . ثم إنهم لَقَّوْنا درسًا قيِّمًا جدًّا : لئن ساغ لهم أن يبلغوا هذا المبلغَ البعيدَ من أجل الصبر على باطلهم والدفاع عنه وفرضه على العالم؛ ومن أجل عزّهم الزائل، ونعيمهم الحائل، وسمعتهم الكاذبة، ومناهجهم الباطلة، وحضارتهم العفنة، وثقافتهم الفاسدة المفسدة، على حين إنهم لايرجون من الله ما نرجوه نحن، فلماذا نتلكأ في القبض على الجمر، من أجل أن يتمّ لنا القبض على ديننا، ونحن دعاةٌ لله ، وجنودٌ لدينه، و وَرَثَةٌ لنبيه الخاتم محمد ؛ ولماذا نخاف التضحيات التي يتطلّبها اليوم دينُنا الحنيف؟.

     إنّه من باب «الحكمةُ ضالّةُ المؤمن» أن نستحيي من أهل الكفر والضلال اليوم الذين يَغُرُّنا تقلُّبُهم في البلاد، تجاه صبرهم المتناهي على المعاناة المريرة  الكثيرة التي يَلْقَونَها في سبيل إرساء دعائم باطلهم . يجب أن نبذّهم في الالتفاف على حقّنا، والاستماتة دونه، والرضا بجميع التضحيات التي يتطلبها منّا ، ولاسيّما لأننا نؤمن بأننا سنُوَفَّىٰ أجرَنا بغير حساب. أما الأعداء هؤلاء، فليس لهم من معاناتهم، إلاّ لذات هذه الدنيا الفانية لامحالة .

     أيّها الأفغاني المؤمن – الذي شَحَذْتَ بمقالتك المؤمنة إيمانَنا ، وأَوْقَدْتَ جمرةَ قلوبنا، وعَزَّزْتَ يقينَنا – لك التحيات المباركات عن بعد ، ولك الدعاء بجنّة الخلد إن نِلْتَ الشهادةَ في سبيل ربك ، ولك الدعاء بطول العمر مع التوفيق للثبات على دينك مهما اضْطُرِرْتَ أن تتجرع الحنظلَ وتمشي على الشوك والقتاد . وإنَّك أَوْعَىٰ منا لمضامين مقالتك ، ودلالات جملتك، التي أنطقك بها الله الذي أَنْطَقَ ويُنْطِقُ كلَّ شيء .

     اللهم ثَبِّتْ أقدامَنا وانصرنا على القوم الكافرين، الذين يحادّون دينَك وأولياءَك ، ويتفنّنون في تعذيبهم والتنكيل بهم ، ويلتذّون بالإساءة إلى كتابك الذي أنزلتَ، ونبيك الذي أرسلت . ولاحول ولاقوة إلاّ بالله العلي العظيم .

 

(تحريرًا في الساعة 7، من صباح يوم الثلاثاء 5/جمادى الأخرى 1426هـ = 12/يوليو 2005م)

أبو أسامة نور

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادي الثانية – رجب 1426هـ = يوليو – سبتمبر 2005م ، العـدد : 7–6 ، السنـة : 29.